حديث مع الدكتورة عايدة النجار حول أحدث كتبها “عمّان بين الغزل والعمل” الذي تواصل فيه شغفها البحثي في رصد التاريخ الاجتماعي للمدن.

في أحدث كتبها “عمان بين الغزل والعمل” تتابع الكاتبة الأردنية الدكتورة عايدة النجار مسار شغفها البحثي في رصد التاريخ الاجتماعي للمدن، وتحديدا مدينتها عمان، الذي ترصد فيه بمنهجية حكايات الإنسان والمكان، مُحتفية بالناس وذاكرتهم الشفوية والسير الذاتية والمشاهدات.

الكتاب صدر أخيرا عن “دار السلوى للدراسات والنشر”، وهو الكتاب السادس لصاحبته التي وُلدت في قرية لفتا القريبة من مدينة القدس، وانتقلت مع عائلتها إثر النكبة لتعيش في الأردن منذ ذلك الحين، ونالت درجة الدكتوراه في وسائل الإعلام والاتصال من جامعة سيراكيوز في نيويورك، وكان كتابها الأول هو أطروحتها للدكتوراه بعنوان “صحافة فلسطين والحركة الوطنية في نصف قرن: 1900- 1948″، ومن أبرز كتبها “بنات عمان أيام زمان”، و”لفتا يا أصيلة: خريفية قرية”، و”القدس والبنت الشلبية”.

“العين الإخبارية” أجرت الحوار التالي مع الدكتورة عايدة النجار.

عنوان كتابك “عمان بين الغزل والعمل” يضع القارئ بين انطباعات شتى، التاريخ والنوستالجيا والحاضر، ما المحاور التي ارتكزت عليها خلال رحلتك البحثية في كتابك الجديد؟ 

كتابي (عمّان بين الغزل والعمل) هو الكتاب السادس، اتبعت فيه منهجا استعملته في كتبي السابقة التي تتعلق بالإنسان والمكان، وفيها ارتكزت على الأسس البحثية التي تنعكس فيها مشاعري ممزوجة بالصور الذهنية، الواقعية، التي تولد النستولوجيا، فالكتاب ليس تاريخياً بالأسلوب الذي يكتب به المؤرخون، وإنما هو تأريخ اجتماعي للمكان والإنسان، أتوقف فيه عند فواصل تاريخية، اعتمدت فيه على المعلومات والوثائق التقليدية، بالإضافة لإغنائه بقصص الناس ومذكراتهم والسير الذاتية والمشاهدات التي تغني وتعزز السرد، وقمت بإجراء المقابلات من أجل الشهادات والتوثيق الشفهي. 

وقد وجدت في هذا المنهج العلمي أسلوبا أحيي فيه المكان الذي يصنعه الإنسان، ويعطيه الحيوية والمشاعر الإنسانية وبخاصة عندما يسترجع الذاكرة ويزاوج بين القديم والحديث.  

هل يمكن اعتبار “عمّان بين الغزل والعمل” مواصلة في رحلة إبحارك في تاريخ المدينة التي بدأتيها في “بنات عمان أيام زمان”؟

يمكن اعتبار كتابي الجديد تكملة أو مواصلة للكتابة عن عمان في زمن غير زمن “بنات عمان أيام زمان” حتى الستينيات من القرن الماضي، فعمان كانت آنذاك غيرها اليوم كمكان بالإضافة للثقافات الآخذة بالتغير بشكل مستمر.

وفي الكتاب الجديد “عمّان بين الغزل والعمل” تحسست ورصدت التغييرات والتحولات المادية وغير المادية التي طالت عمان، فبينما يسلط الكتاب الأول الضوء على البنات وبخاصة بنات المدرسة، وبشكل كبير على بنات مدرستي الابتدائية ثم الثانوية اللاتي تغيرن عن الجدات ليصبحن البنات العصريات والحداثيات في التعليم والثقافة والانفتاح على الحياة العصرية، نجد بنات اليوم في كتابي الأخير يختلفن أيضا عن ذلك الجيل، الذي كان شابا، تشكلت شخصيته بفضل عوامل اجتماعية وثقافية واقتصادية وسياسية لها خصوصية بفضل تأثير ثورة التكنولوجيا والانفتاح على العالم.

ما أبرز مشاهدات رحلتك البحثية في تحولات مدينة عمان من خلال الكتابين؟ وهل هي تحولات سريعة برأيك؟

 أصبحت عمّان مدينة تتأثر بمستجدات العصر سريع التغير، فعمان لم تتأخر بالجري وراء كل جديد، إلا أن هذه السرعة رغم ما في بعضها من إيجابية فإنها أثرت على تهميش الكثير من مظاهر المدينة الصغيرة التي كانت تحمل الإرث التراثي من ثقافة مادية وغير مادية من الأنماط المعمارية والحياتية من عادات وتقاليد وثقافة بسبب تطور المجتمع من ريفي إلى مدني، بالإضافة لذلك صاحب التغيير فوضى جعلت عمان اليوم المكان والإنسان تتأرجح بين التراث والحداثة في نفس الوقت، أثر ذلك على الثقافة وعلى المرأة والرجل في مجتمع متغير، فبينما كانت البنات في المجتمع التقليدي تتغير في الملبس، ومنها مثلاً لبس الحجاب، فالحجاب يعود بشكل واسع بين بنات اليوم بأشكال جديدة ولأسباب التحولات الاجتماعية المحلية والعالمية في النواحي الاجتماعية والاقتصادية والسياسي بينما كان قد انتهى في الخمسينيات.

فقد دخلت ثقافات عالمية جديدة لعمان متنوعة، من ثقافة الجمال وثقافة الطعام وثقافة المقاهي والتدخين وغيرها الكثير كما جاء في فصول الكتاب الـ14.

انشغالك بالتدوين الاجتماعي للمدن نادر في المنجز العربي بشكل عام، لماذا نفتقر لهذا اللون البحثي؟

  أنتجت عدة كتب، كتبي تحكي وتتفاعل مع المكان أو المدن، فالمكان له أهمية كبيرة في وجداني ومفاهيمي، وقد يكون هذا بسبب النزوح من المكان الاصلي والتذكير دوماً به لما تركه النزوح من آثار عليّ، فالمكان لا معنى له من غير الإنسان الذي يبنيه ويتفاعل فيه ويبني ذاكرة يختزنها طول عمره، له من غير الإنسان وجهده وحياته فيه، وطبيعي أن الحياة الحركة والتفاعل وبخاصة أن هدفي من الكتابة كما في إهدائي عادة، وهو للمكان والإنسان الذي أحب وإلى الجيل الجديد من أجل تحفيزه على مواصلة السيرة المسيرة بثبات وأمل.

كتابة التاريخ الاجتماعي منهج يتبعه قلة من الباحثين لا يلتزمون كالمؤرخين بالأسلوب الصارم الذي يعتمد على المنهج المعياري، بل يعتمد على جمع المعلومة وتحليلها وربطه بالمكان والزمان الذي وقعت فيه، دون التوقف بشكل طويل عند التواريخ والأرقام، بل يتوقف عند تفاعلات الناس والعلاقات الاجتماعية والإنسانية، وباستعمال خصوصية في الكتابة، تصبح من السهل الممتنع الذي يوصل الرسالة للقارئ بشكل سلس ودافئ.

هل كان كتابك “لفتا يا أصيلة: خريفية قرية” رسالة حنين لقريتك الفلسطينية “لفتا” وسنواتك الأولى بها؟

كتابي “لفتا يا أصيلة: خريفية قرية” فيه رسائل عميقة، لأنني وُلدت في ذلك المكان الأثير في نفسي، وهو إحدى ضواحي القدس الجميلة التي تأثرت طفولتي بها، فجمال الطبيعة وذاكرة الألوان البرية، كما ذاكرة كتاب “راس روس” الذي علمني القراءة والكتابة واللعب مع أولاد وبنات الجيران في الحارة والشعور بالانتماء والهوية، هي حافز للحنين للأهل الذين كانوا وكنت معهم هناك، ورحلوا دون أن يعودوا، إن الارتباط بالمكان أي مكان أحل فيه اليوم، يشعرني أن المكان الأصيل الذي ولدت فيه ظل عميقا في الذاكرة وخاصة أن إسرائيل حرمتني منه مثل المهجرين من المدن والقرى الفلسطينية المدمرة التي تزيد على الـ500.

زرت لفتا عام 2017، وما أجملها، وقد استفزتني اعتداءات المستوطنين على المكان الجميل، ولم أجد بيتنا ولا بيت جدي الذي هدمته إسرائيل لأتحسر على فردوس سرق منا، وترك في نفسي الحنين لسنوات الطفولة المبكرة التي لا يمكن محوها، لتظل جرحا نازفا.

في “القدس والبنت الشلبية” سيّجتِ مدينتك القدس بالحنين وكذلك بالرؤية التاريخية، حدثينا عن تلك التجربة..

  كما وثقت بأسلوب علمي اجتماعي معزز بالتاريخ الفلسطيني العربي الإسلامي والمسيحي لمدينة القدس في كتابي “القدس والبنت الشلبية”، فالقدس لها خصوصية للفلسطينيين لتاريخها الطويل الموغل في القدم بما فيه من تراث مادي ومعنوي، يؤكد ويعزز الهوية والثقافة الفلسطينية الساكنة في الحجر والشجر وفي المعتقدات الدينية والعلمية، أخذت معي في رحلتي المقدسية، البنت “الشلبية” أي الجميلة كما يصفها أهل القدس والقرى المحيطة بها.

المكان له خصوصية ليس لي وحدي، بل يخلق عالماً وحنينا ومشاعر خاصة لمن يزورها، حجارة عتيقة داخل أسوار القدس العتيقة، بالإضافة للتراث المعماري ونقوشها التي تختزن تاريخ من مروا بها وتركوا الآثار الحضارية الضالعة بالتاريخ، فيها ذاكرة العصر الروماني والبيزنطي والأموي والصليبي والأيوبي والمملوكي والعثماني، وفي نقوشها العربية تحمل التراث والهوية العربية الإسلامية.

كان للتعليم والثقافة مساحة كبيرة في الثقافة والوجود الفلسطيني قبل النكبة في القدس وقراها ومدنها، وكان للمرأة دور هام مع الرجل في بناء الحضارة والاستفادة من ثقافة الحضارات العالمية، ولعل الفصل المتعلق بالبنت الشلبية، منذ ولادتها ما يشير إلى مكانتها المتقدمة آنذاك، فقد كان لها تحت الانتداب البريطاني دور اجتماعي إنساني للتخلص من الجهل والأمية، بالإضافة لدورها السياسي الوطني لرفض وعد بلفور والانتداب البريطاني حتى عام النكبة 1948، جنبا لجنب مع الرجل، وهناك سرد مطول وتفصيلي عن الرائدات في المجالات المختلفة.

ولعل هذا الكتاب الذي أصبح مرجعا تاريخيا اجتماعيا في الفترة الزمنية تحت الانتداب البريطاني يعزز حق الشعب الفلسطيني بالقدس وفلسطين التي نحلم ونعمل لتكون العاصمة الأبدية للدولة الفلسطينية المستقلة.

منى أبو النصر

المصدر

Leave a Comment

Comments

No comments yet. Why don’t you start the discussion?

Comment