قلما استنفر قلمي لمناقشة مسألة أو طرح فكرة ما على صعيد الصحافة الأدبيّة، التي أكنّ لها احتراماً كبيراً، إلا أنّ لرحيل المبدعين الذين أوغلوا في رسم المشهد الثقافي منطقاً آخرَ يفرض على القلم أن يبوح ويعبّر. والقضية هي الأديبة الوازنة «عايدة النجار» التي رحلت دون جلبة ولا فوضى، متأثرة في رحيلها بأسلوبها في الكتابة، منطق سهل وسلس ومرموق، وكأنّ الرحيل يستمدّ من الأسلوب زاده. لم أتخيّل قطُّ أن ما سأكتبه يوماً ما عن عايدة لن تستطيع أن تقرأه أو تتراسل معي فيه؛ لذا – وأنّا المطلع على أدب عايدة النجار، القارئ لجلّ صفحاتها – أجدني في موقف الشاهد المستأمن على قول حقيقة لا بدّ أن يعبّر عنها.

أبت «عايدة النجار» أن ترحل قبل أن يُداعب قلمها ثلاثة أماكن وقرت في ذاكرتها وتأصّلت تأصّلاً استنزف حبرها إلى أقصى ما يحققه مفهوم الاستنزاف والنفاد. لقد راهنت عايدة في ما تكتبه على المكان والإنسان أيّما مراهنة، فنذرت قلمها لتشكيل سيرة متتابعة لهذه الثنائية، فجاءت مدوّنتها السرديّة انعكاساً لذلك، إذ استقر قلم «عايدة» أميناً ملتزماً في استنطاق ثلاثة أماكن استنطاقاً سوسيولوجياً شكل الفضاء الذهني لها: عمّان، والقدس، وقرية لفتا. وتشكّل هذه الأماكن بالنسبة لـ»عايدة» منطلقاً لتفكيرها، وحاضناً أصيلاً لماضيها، ومستقبلاً أميناً لتطلعاتها.

استهلت «عايدة» مدونتها السردية بكتابها الأشهر «بنات عمّان أيام زمان ذاكرة المدرسة والطريق» 2008، فأخلصت لعمّان إخلاصاً يرقى لما كتبه «زياد قاسم» و»عبدالرحمن منيف» عن هذه المدينة الأيقونة، وهي فيما تكتب تنصّب نفسها راويًا للعمل عبر ميثاق سير ذاتي واضح المعالم، غطت فيها عمّان الخمسينيات والستينيات فترة استيقاظ وعي الكاتبة على المكان. لقد سردته عايدة النجار بفيض وحميمية فائقة تنزهه عن السطحية والهامش. ثم استكملت عايدة حديثها عن عمّان في كتابها الذي صدر قبل عشرة أشهر «عمان بين الغزل والعمل» 2019 استكمالا لما بدأته في الكتاب الأول، ولكن من منظور معاصر تقرأ فيه عمّان/ المكان بعينها اليوم، وقد دخلت الكاتبة عقدها السابع. وما نلمحه بمثل هاتين المحاولتين في كتابة سيرة مكانية للإنسان نمطاً لا يشغل نفسه بتجنيس العمل بقدر ما يقدم الفكرة صادرة عن رؤية ثاقبة وإحساس عالٍ بالكلمة.

سعت عايدة النجار في «بنات عمّان أيام زمان» أن تقدم ملمحاً ملتزماً يخص ذاكرة جيل شغل حيزاً لا يستهان به في قلب عمّان إذ سردت بعيداً عن الأهواء والتوغل في الذوات التي شكلت في مجموعها جسد السيرة، فلكل فتاة ومدرسة ومديرة حكاية تتداخل مع الأخريات لتشكيل الوعي الماضوي بشمولية ملتزمة لا تخرج عن سياق الجمع، وكأن عايدة النجار قد أفلحت في ضبط مؤشر الروي عند مستوى الرؤية الجماعية فتكون بذلك قد تحكّمت بزاوية الرؤية فصنعت أدبا ملتزماً تجاه المجموع لا تجاه الذات فحسب. 

أما المكان الثاني الذي شكّل همّاً يرقى إلى مستوى قضية فهو «القدس»، التي بقيت تمثل هاجساً لعايدة النجار يداهمها عندما تكتب. حاولت «عايدة النجار» أن تشفي غليلها من القدس بكتاب يجمع بين المكان والمرأة، فكتبت «القدس والبنت الشلبية» 2011. وفي تجربتها هذه عايدة النجار أثارت اختلافاً من نوع آخر، إذ حضرت القدس بوصفها شخصية تنمو رويداً رويداً في العمل نموا يشيّد الخيط القصصي فيها إن جاز التعبير، وتتبوّأ شخصية الكاتبة فيها دور الراوي العليم مكان الشاهد على حدث بائد. إنه النهوض من لحظة الصفاء وبناء الذات قبل حضور الغرباء والمحتلين، لحظة تشكل حضارة لم يكتب لها البقاء زالت بفعل الانتداب والاحتلال وتدنيس الهوية وتشويهها. لقد استطاعت «النجار» في تلمساتها لملمة خيوط المكان وهسهساته وقصاصاته الصغرى المتواترة على الأفواه والمتراكمة في الأذهان لتصنع المكان والإنسان الغائبين عن الحاضر فتهيئ كوناً متكاملا في نقطة واحدة تجمع كل النقاط، وتوثق سيرتين: المكان والإنسان.

أما المكان الثالث فكان قريتها «لفتا»، وهي قرية حضرت في الكتب السابقة، وشكّلت مرجعية للكاتبة، إذ لم ترف عينها عن الماضي الجميل الذي عاشته في طفولتها فعجزت عن استعادته إلا بفعل الكتابة، وأبلغ اقتباس من هذا الكتاب يمكن أن ينسجم مع فكرة المقال إهداؤها الذي وشّْحت به كتابها «لفتا يا أصيلة .. خريفية قرية» 2015، وقالت فيه: «إلى أهل لفتا الذين وُلدوا وعاشوا في أراضيها وأحبُّوا وعرها وتلالها وشعابها ونباتاتها، والذين قصّوا الحكايات، «والخراريف» لأولادهم عن قرية نضرة كان فيها خبزٌ وزيتونٌ وزعتر، وإلى الذين رحلوا عن الدنيا وبهم شوق لها قبل أن يحققوا حلم العودة. إلى الجيل الجديد الوفيّ من أبناء لفتا الذي لم ينسَ وصية الأجداد، وعينهُ على فلسطين،  تراقب «عين لفتا « الخضراء الغافية في حضن القدس، تحلم بطلوع الشمس رغم كابوس الاحتلال. إليهم أهدي سيرة قرية مهجّرة مدمّرة، ولكنها « الغائبة الحاضرة «، المطرّزة بعروق حجارتها الوردية في الجذر».

وبعد، فقد تركت عايدة النجار خلفها سيرة سرديّة نوعيّة عندما شقّت طريق إبداع صعب في المزج بين فني السيرة الذاتية والسيرة المكانية، ضمن إطار عالٍ من المسؤولية والالتزام تجاه الفن والتوثيق بلغة سردية بسيطة ذات قوام أدبيّ جذّاب. وأذكر أن الكتاب كان يمكث بين يديها سنتين وثلاثاً، وهي تتابع فيه كل صغيرة وكبيرة، وتلاحق كل صورة وتعليق، وتضفي لمستها على الأغلفة، لتعكس ذاتها على ما تخرج وتقدم. وأعتقد أن «عايدة النجار» الآن تغمض عينيها بطمأنينة متناهية بعد أنّ وفّت وعدها بالكتابة، ووثّقت ذاتها في الأماكن التي تُحب، فالمكان أكثر المواضع موثوقية لتخليد الذات والإنجاز، وهي الآن تركت خلفها أعمالاً تملك مقومات الاستمرار والتداول، بعد أن أخلصت ووفّت وأنتجت ووثّقت.

د. نضال الشمالي

المصدر

Leave a Comment

Comments

No comments yet. Why don’t you start the discussion?

Comment