في مقالتي السابقة تناولت وعد بلفور الذي لا يزال اسم صاحبه، يستفز الكثيرين مثلي كلما ذكر، فالاسم سيئ السمعة يتردد هذه الأيام بالصحف بشكل واسع بمناسبة مرور مائة عام على اصداره، وما تزال آثاره تسبب الألم للفلسطينيين. بريطانيا التي تحيزت للصهيونية وما زال لليوم تحيزها السافر لإسرائيل، لتكون إسرائيل دولة استعمارية جديدة بعدما غابت الشمس عن الإمبراطورية العظمى.
أقوال تيريزا ماي رئيسة وزراء بريطانيا الاستفزازية، التي أفضت بها مؤخرا وهي لا ترمش لها عين، تذّكر، بعين بلفور وزير خارجية بريطانيا عندما سطر رسالته المشهورة في ( 2نوفمبر،1917) تتضمن،” عطف حكومة جلالة الملك …” الموجهة للورد روتشيلد، يهديه فيها فلسطين ليجلب يهود العالم اليها مكان الفلسطينيين، ومع الأسف لم يحقق حلمهم لحد اليوم.
لم يعرف العرب عن هذا الخداع عبر صحافتهم الوطنية الرائدة، التي كانت تحذر من نوايا الصهيونية واطماعها في فلسطين منذ نشأتها ، وأبرزها جريدة الكرمل 1908 لصاحبها نجيب نصار، وجريدة فلسطين 1911،وكانت جريدة المقطم قد نشرت نصه في 9 نوفمبر .سبقتها الصحف البريطانية بيوم واحد (التايمز، ومورننج بوست ) تحت مانشيست عريض تقول . “ فلسطين لليهود “. ولم تخف( ذي أوبزيرفور) فرحتها بتحقيق الصهيونية أهدافها وترحيبها “ بالنصر الكبير “. الذي استفز من عرف هذه الاخبار السيئة.
بالاضافة، لذلك، قام اليهود بتوزيعه بشكل واسع بالطائرات، وبإمطار التجمعات اليهودية بالمناشير في أوروبا وتجاهلت السلطات البريطانية الشعب الفلسطيني ولم يطبع الوعد “رسمياّ “في فلسطين قبل عام 1922 وليس عندما دخل الجنرال اللمبي القدس بتاريخ 10 نوفمبر .وهذا ليس غريباً،فالمستعمر دوماً يتصرف بحذر وخشية من الجماهير، كما بريطانيا التي تحسبت للمشاعر الفلسطينية الغاضبة لنكران الجميل، وقامت بفرض الأحكام العسكرية في 24، أكتوبر، 1920 -19917 . وفي هذه المدة ازداد غضب الناس وهياجهم ورفضهم مما دفعهم لتشكيل الجمعيات الوطنية في القدس ويافا والمدن والبلدات الأخرى لرفض” الوعد “ بشكل جماهيري ضد هذه الخيانة، وكان لعودة الصحافة في العشرينيات دور هام بالكشف عما كان يجري سراً من الاستعمار الانجلو صهيوني ونشطت وتكاثر عددها لتلعب دوراً ايجابياً، رغم تعرضها للقمع والاغلاق.
. اسم بلفور ظل ممقوتاً من الشعب وصحافته طوال مدة الانتداب البريطاني على فلسطين وحتى اليوم وكانت الصحافة، أداة ووسيلة لفضح الممارسات الأنجلو صهيونية ضد العرب وأصبحت أداة خوف أيضاً مما سبب لها الكثير من المعاناة بسبب القوانين الجائرة التي كانت تعتبر المقالات الوطنية” مقالات نارية “ مثيرة للرأي العام ضدها.ولعل أفضل مثال هو عندما قام بلفور نفسه وبكل وقاحة في زيارة القدس لاقتتاح الجامعة العبرية بتاريخ 25-28 مارس 1925، فلم تكن الصحافة غافلة هذه المرة عن زيارته لفلسطين واستعدت لمقاطعته مع الشعب وفضح النوايا الصهيونية من جديد، قامت بشن حملات مكثفة غاضبة، والتزمت بتعليمات اللجنة التنفيذية بالإضراب يوم وصوله، وطلبت من الشعب أن يقوم بالاضراب الشامل لمدة يومين قبل وصوله، ونشرت الصحف هذا العمل الوطني المميز، ومنه : “ الامتناع عن مقابلته في الاحتفالات والاجتماعات الرسمية والخصوصية، وعدم السماح له بزيارة الأماكن المقدسة “، وأصدرت تعليمات خاصة بالصحافة وهي أن تصدر يوم دخول اللورد بالحداد وان تنشر جزءا من صفحاتها بالانجليزية حول تصريح وعد بلفور؛ ولعل التزام الجهات الرسمية والشعبية من التجار والمدارس والسيارات وكل مرافق الحياة من المسلمين والمسيحيين العرب ومن القرى والمدن التي رفعت الرايات السوداء، بالإضافة لإلقاء الخطب الوطنية ما زاد في غضب بلفور واليهود . فقد قام خليل السكاكيني بالقاء كلمة وطنية من فوق منصة الحرم الشريف للتعبير عن تضامن المسلمين والمسيحيين، وطلب بصراحة من بلفور مغادرة البلاد التي دخلها خلافاً لرغبات سكانها وأهلها.
في آذار من عام 1930، وفي غمرة مآس الشعب الفلسطيني من ممارسات السلطة التعسفية، مات بلفور، ووجدت الصحافة مناسبة للتذكير بجرمه . قالت جريدة فلسطين، غير حزين : مات بلفور، ويجب أن يموت وعده … “ وشمتت الصحف بموته ونشرت صوت الشعب بالخط العريض عنواناً “مات بلفور “” ما كان العربي ان يشمت في الموت قط، وما كانت امة من الأمم العربية اكثر احتراما للاموات .. عل العرب في فلسطين يتفاءلون خيرا بموتك غير شامتين .. وقال: نأمل من الحكومة أن تقتنع بأن تصريحك قد شاخ وكبر وأنه في دور النزاع ومن العدل ان يدفن معك . ..”
نعم لقد شاخ الوعد وعصر الاستعمار البريطاني الذي لا يتعلم درساً ليستمر البعض مثل تيريزا ماي في محاولة إحيائه والاستمرار بدعم إسرائيل المحتلة التي تواصل احتلالها وتهويد فلسطين.