أحد عشر فصلاً ضمها كتاب الدكتورة عايدة النجار الموسوم بنات عمان أيام زمان بعنوان فرعي ذاكرة المدرسة والطريق.. كنت اتمنى لو كان عنوان ذاكرة المدرسة والطريق هو الرئيسي ونزل الآخر كعنوان فرعي، نظراً للدلالة العميقة التي تنطوي عليها ذاكرة المدرسة والطريق والتي احسبها لا تتغير كثيراً في الزمان والمكان، سوى ما خص التفاصيل وربما ما ينشأ في مسيرة الزمن من تطور في سبل المعيشة ومستوى الدخل، وما تحفل به حياة الأُسر، من أسرار وثقافة وعادات وتقاليد، ليس بالضرورة ان تكون منسجمة مع ما باتت عليه بعض تلك الأُسر من بحبوحة في العيش والارتقاء في المساكن وما تحفل به من تحف وأثاث، وما يتدثر به أفرادها من أزياء قد تكون وصلت للتو من باريس ولندن ومن أرقى خطوط الموضة.. لكن المستوى الثقافي والحضاري لها (للأُسر وأفرادها) ما يزال تحت خط، مثير للشفقة وباعث على الأسى والسخط في الآن ذاته ولهذا تحضرني في هذا المقام عبارة لسوفوكليس، جاءت في مسرحيته الشهيرة انتيجونا هناك عجائب كثيرة في هذا الكون، لكن لا شيء اعجب من الانسان .. ما علينا. لست أُولي العنوان الأهمية مقارنة بما حفل به الكتاب من تفصيلات دقيقة ومستفيضة حول عمان الخمسينات، تلك الحياة الجديدة التي طرأت على حياة الكاتبة / المؤلفة ، بعد ان أجبر الارهاب الصهيوني عائلتها على مغادرة قريتها لفتا، التي كانت العودة اليها قريباً هو الرد الوحيد الذي كانت تسمعه عندما تطرح السؤال الذي يستحوذ على كل تفكيرها ويشغل بالها وهو متى اذهب الى المدرسة؟ .. للأمكنة اذاً، منزلة خاصة لدى الدكتورة عايدة.. والمدرسة – كما تقول في مقدمتها – هي احدى هذه الأمكنة التي احببتها منذ الطفولة كالبيت والوطن .. ولأن المدرسة كانت المكان الذي شكل شخصية التلميذة عايدة تكويناً وهوية وخصوصية كما أي شخصية اخرى على مقاعد الدراسة ، فإنها في كتابها الذي جاء اقرب الى السيرة الذاتية بما هي بوح ومحاولة لا تنتهي لاستعادة ذلك الزمن الذي لن يعود، والحرص على عدم تفويت أي حادثة أو خبر وحتى نميمة أو مقلب يحفل بها مجتمع المدرسة، المتدرج صعوداً، وعياً وربما عزلة وخصوصية (تحديداً في مدارس الاناث في قرية كبيرة او آخذة في الكبر كعمان الخمسينات، حيث يتمترس الشباب على مداخلها في تقليد لا يتغير سواء كنت في عمان أم بغداد، القدس أم القاهرة ودمشق، إلاّ في بعض الطقوس والعادات، وإن كان الاحتكاك بين الجنسين، قد غدا مباشراً الان في المدارس المختلطة التي تضم ابناء النخبة والموسرين ومحدثي النعمة وطالبي الشهرة والمكانة الاجتماعية).. نقول في كتابها هذا تأخذك المؤلفة الى مربعات واجواء، قد يرى بعض من اطلع بعمق على كتب السيرة الذاتية، أنها مغرقة في التفاصيل التي لو خلا الكتاب منها، لكان اكثر تشويقاً، وخصوصاً لو انه تعرض الى أحداث سياسية وآراء اجتماعية واخرى اقتصادية وثقافية بعمقٍ وتوسع وخصوصاً ان المؤلفة توفرت بعد تخرجها، على ثقافة عالية ونشطت في مجالات عديدة سياسية واعلامية وحزبية وثقافية واجتماعية. يمكن الرد في سهولة على مثل هذه الاراء، التي لا تنقص على أي حال من قيمة الكتاب وثرائه وقدرة كاتبته على اعادتنا الى اجواء تكاد ان تكون مفقودة في مجتمعنا الراهن، بعد تلك التشويهات التي طرأت عليه بفعل الثقافة الاستهلاكية والقرارات غير المدروسة التي تتخذها الهيئات والمؤسسات ذات العلاقة، والتي تؤثر في مسار الأحداث والمجتمعات ولكنها (من أسف) تأثيرات سلبية ومفتعلة ولا يغامر المرء اذا ما قال انها كارثية.. لهذا أصلاً – في ما أحسب – لم تشأ الدكتورة عايدة النجار ان تجلس في موقع الواعظة والمنظّرة و المعلقة على الأحداث من منظار القرن الحادي والعشرين، فيما هي تتحدث عن النصف الثاني من القرن العشرين، وإن كانت تعرضت لاحداث تلك الفترة في الفصل العاشر ولكن في تسجيل أمين وناقد في الان عينه لذات الفترة وفق العناوين التالية نشاطات طلابية، جرأة وايمان، المظاهرات، شبح دير ياسين، من اجل قبيّة من اجل فلسطين ص199 – ص224 .. قصدت بالفعل، أن لا اعرض للكتاب على الشكل التقليدي الذي تعودنا عليه عند صدور كتاب جديد، وبخاصة ان ذاكرة المدرسة والطريق الذي استطاعت الدكتورة عايدة انجازه بدأب وصبر وتوثيق يراعي المعايير العلمية وحشد كثير من الصور النادرة والتاريخية، لتلك الفترة التي تحدثت عنها ومعظمها لزميلات لها في الدراسة وما لحق ببعضهن أو شاركن، في نوادر وقصص وغزل ومضايقات وصراع بين الذكور للفوز بهن، حظي (الكتاب) بقراءات ومقالات ودراسات وندوات طوال تلك الفترة القصيرة التي تلت صدوره في اوائل الشهر الماضي حتى الان، والتي لا يستطيع المرء تجاهل بعضها أو إعادة انتاجها، على شكل تناول كل فصل من الفصول واقتباس عبارة من هنا وفقرة من هناك بهدف الاطالة أو للايحاء بأنه قرأ الكتاب كلمة كلمة وفصلاً فصلاً بدليل انه يعرض له في صحيفة يومية أو ملحق ثقافي أو ندوة جماهيرية.. احسب ان الكتاب يستحق القراءة لسببين من جملة أسباب لا داعي لذكرها، احدهما ان الكاتبة نجحت في رسم صورة قلمية واقعية وصادقة لبنات عمان أيام زمان، وثانيهما أنها أرادت ان تترك للقارئ حرية الحكم على ما سجلته ذاكرة المدرسة والطريق من احداث لم تفصل السياسة عن الدراسة، ولم تترك الاجتماعي جانباً ولم تتردد في كشف بعض الخصوصيات التي لا تنكأ جراحاً ولا تشكل خطيئة لكنها كانت جزءاً من مشهد يصعب على راصدة مثلها ان تهمل تفاصيلها تحت دعاوى متهاتفة.
Post navigation
Previous Post
عايدة النجار .. وتلك الأيام