ظل التأريخ العربي..»أي كتابة التاريخ» فقيراً في تدوين الجوانب الاجتماعية في الحياة العربية حين كان يحفل بتدوين الوقائع السياسية او العسكرية أو حتى الثقافية لبلاطات السلاطين والخلفاء والملوك والامراء و الحكام او من دخل دوائرهم المضيئة في حين كانت الامتدادات البشرية في المدن والاصقاع و الامصار مهملة من التدوين، متروكة لا يهتم بها الاّ القلة أو الندرة.. حين نريد معرفة شيء عن الحال الاجتماعية لأهل بغداد على سبيل المثال حتى في زمن هارون الرشيد حين كانت عاصمة العالم لم نكن نجد شيئاً وفيراً الاّ ما تناثر عن غير قصد في قصائد الشعر أو كتب التراجم أو التاريخ.. ولولا «ابن الشمقمق» على سبيل المثال لما وصلتنا معلومات عن العيارين واللصوص والشطارين وقطاع الطرق وحال الاسواق في وصفه لمسؤول بخيل زاره والناس تعاني الحاجة والفقر ما كنت احسب ان الخبز فاكهة حتى نزلت على ارض بن منصور الجالس الروث في أعفاج بغلته خوفاً على الحبّ من لقط العصافير وبعيداً عن التقاط موقف التراث في القضايا الاجتماعية فان الباحثين العرب الان من مؤرخين وادباء اقتربوا من واقعهم الاجتماعي و رسموه وعكسوه في اشعارهم ورواياتهم وبحوثهم ودراساتهم وقد اصابنا نحن في الاردن من هذا الكثير ومازلنا نتطلع لمن يدون بدايات حياتنا الاجتماعية والاقتصادية الاردنية والفلسطينية وامتدادهما المشترك قبل النكبة ومنذ القرن الماضي وما قبله… وقد اجاد في هذا المجال الدكتور رؤوف ابو جابر في كتاباته عن الاردن في القرن الماضي واخرون كثيرون لا تحضرني مؤلفاتهم واسماؤهم.. اسوق هذه المقدمة التي لا اعرف مدى ضرورتها او مناسبتها لما سأقوله وانا احتفي بكتاب الباحثة المبدعة الدكتورة عايدة النجار «بنات عمان ايام زمان»- «ذاكرة المدرسة والطريق»… فما يشيعه الكتاب من خواطر من كل قارئ يقرأه وهو يسقط عليه تجربته المختلفة مع الماضي والمدرسة كثير. ولكن عايدة النجار قدمت النموذج لتشكل من لحظات عمان الماضية الجميلة فضاء كتابها المشحون بالعاطفة والتاريخ والمعلومة والذكريات وايضا الصور. والكتاب يعكس تطور التعليم والمدرسة والزّي والاهتمامات والابنية والشوارع والمفاهيم المتداولة واشكال النشاط الرياضي والكشفي والاجتماعي. صحيح ان الكتاب يتناول شريحة من الطالبات التي توفرت لهن مدارس خاصة انذاك واكثرهن ينتمي الى حالات اجتماعية متوسطة وفوق متوسطة قد لا تعكس كل الحال الاجتماعية في جوانبها الاخرى ولكن المساحة التي اختارتها النجار كانت المدرسة … المدارس. ومدارس البنات… وبنات عمان باعتبار ان النموذج الذي اختارته يعكس بنات عمان في ذلك الزمن… ازعم انني استمتعت بالقراءة للكتاب متعة فاقت ما قدمته كتب ودواوين وروايات كثيرة عن عمان رغم انني احتفيت بما كتبه الزميل محمد رفيع والروائي عبدالرحمن منيف، وصاحب القلعة وغيرهم من تاريخ المكان في عمان.
النجار كانت شاهدة على تلك المرحلة ،فقد خرجت منها وكتبت عنها بحميمة وصدق واخلاص لتقدم لنا وثيقة اجتماعية في التطور لجيل عاش الاستقلال وتطلع اليه وشحن به سواء كان من الرجال او النساء ، جيل كان قد وضع البدايات لبناء مجتمع مدني تعثر فيما بعد للأسف قبل ان تهب رياح السلفية والتعصب. جيل اخذ بالحرية مع الاحتفاظ بالمثل العربية.. جيل جاء مستفيدا من دعوات هدى شعراوي وقاسم امين وفارس الشرياق وغيرهم.. دققت في الصور.. لا طالبة في زي شرعي .. رغم ان المدارس اسلامية في غالبيتها وكذلك المعلمين والمعلمات وقد طرأت هذه الفكرة عليّ وانا ادقق في الصور رغم ان الزمن الملتقطة فيه تلك الصور يقارب نصف القرن ويزيد.. المدرسة جزء من ذاكرة عمان ويستطيع من يوثقها ان يوثق جزءا من تاريخ مدينة نهض اهلها بالتعليم والمعرفة. السرد الجميل الذي اوردته النجار فيه تاريخ يمكن اعادة انتاجه من بين السطور والوقائع المقدمة لينذرك اين كنا واين اصبحنا من جهة وشكل انطلاقتنا وما اعترضها. وكيف استطاعت عمان الفتية ان تبلغ ما بلغته من تقدم وازدهار ببناتها التي كتبت عنهن عايدة النجار وبرجالها الذين صنعوا تاريخها ومجدها .فاصبحت على ما هي عليه من انجاز..
سلطان الحطاب