كنت منذ طفولتي المبكرة أهتم بالسياسة وتطوراتها، وهذا ما كان للكثيرين من الكبار والصغار الذين تركوا بيوتهم في رحلة التيه والخروج من البيت والارض الفلسطينية ليصبحوا لاجئين. كان الراديو منذ النكبة مصدر الأخبار عما يجري في فلسطين…

يرطب الغضب الداخلي سماع الموسيقى، وصوت عبد الوهاب وأم كلثوم، وفيروز التي ما زالت تغني لنا «سنرجع يوما…». وبعد تطور الراديو الصندوق الكبير الذي كنا نلتف حوله في البيت بكل خشوع عند سماع نشرة الأخبار، وبخاصة في حضور والدي علي اسماعيل النجار الرجل الجاد الذي تحمل مسؤولية إعالة عائلة كبيرة كما كان قبل الرحيل يوفر حياة مريحة للجميع. كنا نتصرف بأدب واحترام كبير لصاحب السلطة في البيت وأتذكر ما قاله يوماً وأنا اشاركه سماع الأخبار، بصوت مسموع وهو يكلم بعضه ويتفاعل مع الأخبار في أوائل الستينيات ونحن في الزرقاء وبدت عليه العصبية «إن شاء الله بنرجع.. أيوه بنرجع.. ». كان حلمه أن يرجع لبيته في راس النادر في لفتا، في البيت القريب من حرش شنلر وروميما والقدس، وأراضيه الكثيرة في الشيخ جراح، ووادي الجوز، وأرض السمار وجورة العميان والمصرارة وفيها بيوت أبيه.

استفزني اليوم الراديو القريب من سريري، وصوت فيروز حبيبتي المفضلة يوقظني، وكأنني أسمع صوت أبي رحمه الله، وقد رحل مقهوراً إثر اصطدام في شارع قاس بين عمان والزرقاء يقول، إن شاء الله بنرجع … ولعله كان يستمع للأخبار ويعلق مع السائق على طول الهجرة التي حسبها بضعة أشهر، بالرغم انها كانت لا تتجاوز العشر سنين آنذاك . نعم يا أبي طال الرحيل.. وما يجري اليوم للفلسطينيين، يبعث على الأسى والإحباط رغم الصمود الباسل لمن ظلوا يعانون تحت احتلال غاشم موجع. فنحن بخير، وإن الشوق كبير لذاكرة الوطن.

أسوق هذا، وأنا اتابع الأخبار اليوم على الريق، حول ما يقوم به جيش العدو اليهودي الذي يصول ويجول يفتش عمن يقول سنرجع يوماً الى أرضنا… يتراكض الجيش المدجج بالسلاح يلاحق الفلاحين الذين بقي لهم بعض شجر الزيتون .. ويحاصرون بيوت أصحاب الارض، ويهدمونها بالجرافات، أينما وجد من يعبرعن حبه لفلسطين وبأية طريقة حتى وإن لبس الحطة الفلسطينية أو ثوب الجدات التقليدي الجميل… إنهم يسرقون كل شيء ويثيرون الفزع والخوف والارهاب، لمن يصلّون في المسجد الاقصى أو أي مسجد يرفع صوت الاذان الذي يزعجهم ويريدون إسكاته.. ما يغيظ يا أبي هو بناء المستوطنات في كل مكان على بقايا بيوتنا التي بنيتها وبيت جدي الذي كنا نتسلق شجر التين والاسكدنيا لنقطف الثمر لكم الكبار وأنتم تقولون ديريوا بالكم أن تقعوا… «. ما أحزنني يا أبي، أنني لم أجد حتى بقايا البيت، ولم أجد بيت جدي الكبير وكرميده الأحمر اللمميز.. حاول صديقي اللفتاوي اقناعي أن هذه العمارة الضخمة هي مكان بيت والدك الحاج اسماعيل النجار شيخ لفتا.. فلم أقتنع.. وحاولت أقناعه أن ليس حول البيت شجرة التوت العالية، وقد استغرب أنني لا أريد أن أقتنع أن الحال تغير، والمكان تغير، والحرش اقتلعت أشجاره التي كنت أتسلق عليها، وأبكي عندما كنت أقع وتجرح ركبي…

الراديو مازال يخبرنا الكثير يا أبي هذه اليوم… اسرائيل تتراكض مع ترمب تبحث عمن يشاركها في اتمام عملية قلع الجذور، وتغيير الحقائق والتاريخ.. وتشريد العصافير المغردة التي كانت تبعث ذاكرة الامل ونحن نسترجعها … الصوت والصورة الاكثر وضوحاً تقول لنا أنتم في خطر.. إذا ما بقيت صفقة العصر أولوية اليهود من أجل محاولة قتل الصوت والصورة التي تقول… سنرجع يوما ً…. سيظل صوتك في قلوبنا يا أبي دوما…فسلام على روحك…

المصدر

Leave a Comment

Comments

No comments yet. Why don’t you start the discussion?

Comment